فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ}: أين اسْم شَرْك يجزم فِعْلَين، وما زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها، وأين ظَرْف مَكَان، و{تكونوا} مَجْزومٌ بها، و{يدرككم}: جوابُه.
والجمهُور على جزمه؛ لأنه جواب الشرط، وطلحة بن سليمان: {يدركُكم} برفعه، فخرَّجه المُبَرِّد، على حَذْفِ الفَاءِ، أي: فيدرككم المَوْت.
ومثلُه قول الآخر: [الرجز]
يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ ** إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ

وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ.
وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر: وهو أنْ يكُون يَصْرَعُ المرفُوعُ خبرًا لإنك، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله: إنك تصرع؛ كقوله: {وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال: ويجُوزُ أن يُقال: حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ {أينما تَكُونوا} وهو {أينما كُنْتُم} كما حُمِل على ما يقع موقع ليسوا مصلحين وهو ليسوا بمصلحين فرفع كما رفع زهير ولا ناعب: [البسيط]
................................... ** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ

وهو قولُ نحويّ سِيبيّ، يعني منسوب لسيبويه، فكأنه قال: {أينما كنتم}، وفعلُ الشرط إذا كان ماضيًا لفظًا جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير: [البسيط]
وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ يَقُولُ

وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد. ورَدَّ عليه أبو حَيّان: بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضيان لو قُلْت: أنت ظَالمٌ إنْ تفعل لم يَجُز. وهذا- كَمَا رَأيتَ- مضارعٌ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى.
{ولو كنتم} قالوا: هي بِمَعْنى: إنْ وجوابُها مَحْذُوف، أي: لأدْرَكَكُمْ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلًا غَرِيبًا عن عِنْدَ نَفْسِه، فقال: ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي: لا تُنْقَصُون شيئًا مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها، ثم ابتدأ بِقَوله: {تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} انتهى.
ورَدَّ عليه أبو حيَّان، فقال: هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية:
أمَّا من حَيْثُ المعنى: فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلًا بقوله: {لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِرًا إنما هو في الآخرة؛ لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى}.
وأمَّا من حَيْث الصِّنَاعةُ النَّحويّة: فإنَّ ظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ {أينما تكونوا} متعلِّقٌ بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بمعنى ما فسّره، وهذا لا يجُوزُ؛ لأن أسْمَاءَ الشَّرْط لها صَدْرُ الكَلاَم، فلا يَتَقَدَّم عَامِلُها عليها، فإنْ وَرَد مثلُ: اضْربْ زيدًا متى جَاءَ قُدِّر له عَاملٌ يدلُّ عليه اضرب لا نفسُ اضْرِب المتقدِّم.
فإن قيل: فكذلك يُقَدِّر الزَّمَخْشَرِيّ عاملًا يدلُّ عليه {وَلاَ تُظْلَمُونَ} تقديره: أينما تكونوا فلا تظلمون فحذف فلا تظلمون، لدلالةِ ما قبله عليه، فيخلُصُ من الإشْكَال المَذْكُور.
قيل: لا يُمْكِن ذلك؛ لأنه حينئذ يُحذفُ جَواب الشَّرط وفعلُ الشرط مُضَارعٌ، وقد تقدم أنَّه لا يَكُون إلا ماضيًا. وفي هذا الردِّ نظرٌ؛ لأنه أرادَ تَفْسِير المَعْنَى. قوله: ولا يناسب أن يكون مُتَّصِلاَ بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} مَمْنُوعٌ، بل هُو مُنَاسِب، وقد أوضَحَهُ الزَّمَخْشَرِي بما تقدَّم أحْسَنَ إيضَاحٍ.
والجُمْلَة الامتنَاعِيَّة في مَحَلَّ نصبٍ على الحَالِ، أي: أينما تَكُونوا من الأمكنة، يدركْكم المَوْت، ولو كانت حَالُكم أنَّكم في هذه البُرُوج، فيُفْهَمُ أن إدراكه لهم في غَيْرِها بطريق الأوْلى والأخْرى، وقريبٌ منه: «أعْطُوا السَّائِل ولو على فَرَسٍ». والجملةُ الشَّرطِيَّة تحتمل وَجْهَيْن:
أحدهم: أنها لا مَحَلَّ لها من الإعراب؛ لأنها استِئْنَافُ إخبارٍ؛ اخبر تعالى أنَّه لا يفُوتُ الموتَ أحَدٌ، ومنه قولُ زُهَيْر: [الطويل]
وَمَنْ هَابَ أسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ** ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ

والثَّاني: أنها في مَحَلِّ نَصبٍ بالقَوْل قَبْلَها أي: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَبِيلٌ، وقُلْ أيضًا: أينما تَكُونُوا.
والجُمْهُور على {مشيدة} بفتح الياء اسم مَفْعُول. ونعيم بن ميْسَرة بِكَسْرِها، نسَبَ الفعلَ إليها مَجَازًا؛ كقولهم: قَصِيدَةٌ شَاعِرَة، والموْصُوفُ بذلك أهْلُها، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مُبَالغةً في الوَصْفِ.
والبُرُوج: الحُصُونُ مَأخُوذةٌ من التَّبرُّج وهو الإظْهَارُ، ومنه: {غير مُتبرِّجَات بزينة}، والبَرَجُ في العين: سَعَتُها، ومنه قولُ ذي الرُّمَّة: [البسيط]
بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ ** كَأنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ

وقولُهُم: ثَوْبٌ مُبَرَّجٌ أي: عليه صُورُ البُرُوج؛ كقولهم: مِرْطٌ مُرَجَّل أي: عليه صُورُ الرِّجَال، يروى بالجيم والحاء، والمشيَّدة: المَصْنُوعة بالشِّيدِ؛ وهو الجِصُّ، ويقال: شَادَ البِنَاء وشيَّدَهُ كرَّر العَيْن للتَّكْثِير؛ ومن مجيء شاد قولُ الأسود: [الخفيف]
شَادَهُ مَرْمَرًا وجَلَّلَهُ كِلْـ ** ـسًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذَرَاهُ وُكُورُ

ويقال: أشاد أيْضًا، فيكون فَعَل وأفْعَل بِمَعْنًى.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: شاد القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أو طَلاَه بالشِّيد، وهو الجِصُّ وهذا قَوْل عِكْرمَة، وقال قتادة معناه: في قُصُورٍ محصَّنةٍ، وقال السُّدِّيُّ في بُرُوجِ في سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّة، وهي بُرُوج الفلك الاثْنَي عشر، وهذا القَوْل مَحْكِيٌّ عن مَالِك، ومعنى مشيدة، أي مادّة من الرَّفْع؛ وهي الكَوَاكِبُ العِظَام.
وقيل: للكَواكِب: بُرُوجٌ، لظُهُورِها من بَرِجَ يَبْرِج إذا ظَهَر وارْتَفَع.
قوله: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ}
وقف أبو عمرو والكسائي- بخلاف عَنْه- على مَا في قوله: {فما لهؤلاء} وفي قوله: {مَالِ هذا الرسول} [الفرقان: 7] وفي قوله: {مَا لهذا الكتاب} [الكهف: 49] وفي قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المعارج: 36]. والبَاقُون: على اللام التي للجرِّ دون مَجْرُورها اتِّباعًا للرَّسم، وهذا ينبغي ألاّ يَجُوز- أعني: الوَقْفَيْن- لأنَّ الأوَّل يُوقَف فيه على النُبْتَدَأ دونَ خَبرِه، والثاني يُوقِف فيه على حَرْفِ الجَرِّ دونَ مَجْرُورِه، وإنما يجُوزُ ذلك؛ لضَرُورةِ قَطْعِ النَّفْسِ أو ابْتِلاَءٍ.
قال الفرَّاء: كثرت في الكَلاَم هذه الكَلِمَة، حتى تَوهَّمُوا أنَّ اللاَّم متصلة بِهَا، وأنَّهُمَا حَرْف وَاحِدٌ، ففصَلُوا اللاَّمَ بما بَعْدَها في بَعْضِه، وَوَصَلُوها في بَعْضِه، والقراءة الاتِّصَالُ، ولا يجُوزُ الوَقْفُ على اللامِ؛ لأنَّها لامٌ خافضة.
لمَّا دلَّ الدَّلِيل على أنَّ كل ما سِوَى الله مستندٌ إلى الله، وكان ذَلِكَ الدَّليل في غاية الظُّهُور، قال تعالى: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وهذا يَجْرِي مُجْرَى التَّعَجُّبِ؛ لعدم وُقُوفِهم على صِحَّةِ هَذَا الكَلاَمِ مع ظُهُورِهِ. اهـ. بتصرف.

.تفسير الآية رقم (79):

قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أجابهم بما هو الحق إيجادًا علمهم ما هو الأدب لماحظة السبب فقال مستأنفًا: {ما أصابك من حسنة} اي نعمة دنيوية أو أخروية {فمن الله} أي إيجادًا وفضلًا، والإيمان أحسن الحسنات، قال الإمام: إنهم يقولون: إنهم اتفقوا على أن قوله: {ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله} [فصلت: 33] المراد به كلمة الشهادة {وما أصابك} وأنت خير الخلق {من سيئة} أي بلاء {فمن نفسك} أي بسببها فغيرك بطريق الأولى.
ولما اقتضى قولهم إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم إلا أن فعل كل خارق، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه مستو مع الخلق في القدرة قال سبحانه وتعالى مخبرًا بما اختصه به عنهم: {وأرسلناك} أي مختصين لك بعظمتنا {للناس} أي كافة {رسولًا} أي تفعل ما على الرسل من البلاغ ونحوه، وقد اجتهدت في البلاغ والنصيحة، ولم نجعلك إلهًا تأتي بما يطلب منك من خير وشر، فإن أنكروا رسالتك فالله يشهد بنصب المعجزات والآيات البينات {وكفى بالله} المحيط علمًا وقدرة {شهيدًا} لك بالرسالة والبلاغ. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

والخطاب في قوله: {ما أصابك} خطاب للرسول، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك.
وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله: {قل كلّ من عند الله}، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله: {وما أصابك من سيّئة فمن نفسك}.
وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب «حَزّ الغلاصم»: إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية، وليستا كذلك.
وأنا أقول: إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلاّ قَوْلًا بموجَب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّر على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة كما بيَّنْته آنفًا يجعل الآية صالحة للاستدلال، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم.
وجيء في حكاية قولهم: {يقولوا هذه من عند الله يقولوا هذه من عندك} بكلمة (عنِد) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبيء عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يُفيد جزمهم بذلك الانتساب.
ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال: {قل كلّ من عند الله} مشاكلة لقولهم، وإعرابًا عن التقدير الأزلي عند الله.
وأمّا قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك} فلم يؤت فيه بكلمة (عند)، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيِّئة من نفس المخاطب، ابتداءُ المتسبّب لِسبب الفعل، وليسَ ابتداءَ المؤثِّر في الأثر. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو علي الجبائي: قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة، وتارة يقع على الذنب والمعصية، ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} [النساء: 78] وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} فلابد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما، ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين، قال: وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرؤا: {فَمَنْ نَفْسك} فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن.
فإن قيل: فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم؟
قلنا: لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فانما وصل إليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الاضافة إليه، وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها، ولا بأنه أمر بها، ولا بأنه رغب فيها، فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى.
هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع.